فصل: تفسير الآيات (81- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (78):

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}
أي: طائفة من اليهود {يلوون} أي: يحرّفون، ويعدلون به عن القصد، وأصل الليّ: الميل، يقول لوى برأسه: إذا أماله، وقريء: {يلووّن} بالتشديد، و{يلون} بقلب الواو همزة، ثم تخفيفها بالحذف، والضمير في قوله: {لِتَحْسَبُوهُ} يعود إلى ما دلّ عليه {يَلْوُونَ} وهو: المحرّف الذي جاءوا به. قوله: {وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب} جملة حالية، وكذلك قوله: {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} وكذلك قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: أنهم كاذبون مفترون.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم} قال: هم اليهود. كانوا يزيدون في الكتاب ما لم ينزل الله.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: يحرّفونه.

.تفسير الآيات (79- 80):

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}
أي: ما كان ينبغي، ولا يستقيم لبشر أن يقول هذه المقالة، وهو متصف بتلك الصفة. وفيه بيان من الله سبحانه لعباده أن النصارى افتروا على عيسى عليه السلام ما لم يصح عنه، ولا ينبغي أن يقوله. والحكم: الفهم والعلم. قوله: {ولكن كُونُواْ} أي: ولكن يقول النبي كونوا ربانيين. والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف، والنون للمبالغة، كما يقال لعظيم اللحية لحياني، ولعظيم الجمة جماني، ولغليظ الرقبة رقباني، قيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، فكأنه يقتدي بالربّ سبحانه في تيسير الأمور.
وقال المبرد: الربانيون: أرباب العلم، واحدهم رباني، من قوله: ربه يربه، فهو ربان: إذا دبره، وأصلحه، والياء للنسب، فمعنى الرباني: العالم بدين الربّ القويّ التمسك بطاعة الله. وقيل العالم الحكيم. قوله: {بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ} أي بسبب كونكم عالمين، أي: كونوا ربانيين بهذا السبب، فإن حصول العلم للإنسان، والدراسة له يتسبب عنهما الربانية التي هي التعليم للعلم، وقوّة التمسك بطاعة الله. وقرأ ابن عباس، وأهل الكوفة: {بما كنتم تعلمون} بالتشديد. وقرأ أبو عمرو، وأهل المدينة بالتخفيف، واختار القراءة الأولى أبو عبيد. قال: لأنها لجمع المعنيين. قال مكي: التشديد أبلغ؛ لأن العالم قد يكون عالماً غير معلم، فالتشديد يدل على العلم، والتعليم، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط. واختار القراءة الثانية أبو حاتم. قال أبو عمرو: وتصديقها {تدرسون} بالتخفيف دون التشديد. انتهى. والحاصل أن من قرأ بالتشديد لزمه أن يحمل الرباني على أمر زائد على العلم، والتعليم، وهو أن يكون مع ذلك مخلصاً، أو حكيماً، أو حليماً حتى تظهر السببية، ومن قرأ بالتخفيف جاز له أن يحمل الرباني على العالم الذي يعلم الناس، فيكون المعنى كونوا معلمين بسبب كونكم علماء، وبسبب كونكم تدرسون العلم. وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل، وإن من أعظم العمل بالعلم تعليمه، والإخلاص لله سبحانه.
قوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا} بالنصب عطفاً على {ثم يقول} {ولا} مزيدة لتأكيد النفي، أي: ليس له أن يأمر بعبادة نفسه، ولا يأمر باتخاذ الملائكة، والنبيين أرباباً بل ينتهي عنه، ويجوز عطفه على أن يؤتيه، أي: ما كان لبشر أن يأمركم بأن تتخذوا الملائكة، والنبيين أرباباً، وبالنصب قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف، والقطع من الكلام الأوّل، أي: ولا يأمركم الله أن تتخذوا الملائكة، والنبيين أرباباً، ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود، {ولن يأمركم}. والهمز في قوله: {أَيَأْمُرُكُم} لإنكار ما نفي عن البشر. وقوله: {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} استدل به من قال: إن سبب نزول الآية استئذان من استأذن النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين في أن يسجدوا له.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود، والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك، كما تعبد النصارى عيسى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني» فأنزل الله في ذلك: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية.
وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن قال: بلغني أن رجلاً قال: يا رسول الله نسلم عليك، كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: «لا ولكن أكرموا نبيكم، واعرفوا الحق لأهله، فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله» فأنزل الله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {ربانيين} قال: فقهاء علماء.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه قال: حكماء علماء حلماء.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه قال: علماء فقهاء.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود قال: حكماء علماء.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي رزين في قوله: {وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} قال: مذاكرة الفقه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن جريج في قوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة} قال: ولا يأمرهم النبي.

.تفسير الآيات (81- 82):

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}
قد اختلف في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} فقال سعيد بن جبير، وقتادة، وطاوس، والحسن، والسديّ إنه أخذ الله ميثاق الأنبياء: أن يصدّق بعضهم بعضاً بالإيمان، ويأمر بعضهم بعضاً بالكتاب إن بذلك، فهذا معنى النصرة له، والإيمان به، وهو ظاهر الآية، فحاصله أن الله أخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر، وينصره، وقال الكسائي: يجوز أن يكون معنى: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} بمعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين، ويؤيده قراءة ابن مسعود: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} وقيل: في الكلام حذف. والمعنى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين؛ لتعلمن الناس لما جاءكم من كتاب، وحكمة، ولتأخذن على الناس أن يؤمنوا، ودلّ على هذا الحذف قوله: {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى} و{ما} في قوله: {لما آتيتكم} بمعنى الذي. قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم} فقال: {ما} بمعنى الذي. قال النحاس: التقدير في قول الخليل الذي آتيتكموه، ثم حذفت الهاء لطول الاسم، واللام لام الابتداء، وبهذا قال الأخفش، وتكون ما في محل رفع على الابتداء، وخبرها من كتاب، وحكمة.
وقوله: {ثُمَّ جَاءكُمْ} وما بعده جملة معطوفة على الصلة، والعائد محذوف أي: مصدّق به.
وقال المبرد، والزجاج، والكسائي: {ما} شرطية دخلت عليها لام التحقيق، كما تدخل على {أن} و{لتؤمنن به} جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق، إذ هو بمنزلة الاستحلاف، كما تقول: أخذت ميثاقك، لتفعلنّ كذا، وهو: سادّ مسدّ الجزاء.
وقال الكسائي: إن الجزاء قوله: {فَمَنْ تولى}.
وقال في الكشاف: إن اللام في قوله: {لما آتيتكم} لام التوطئة، واللام في قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ} جواب القسم، {وما} يحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، {ولتؤمنن} سادّ مسدّ جواب القسم، والشرط جميعاً، وأن تكون موصولة بمعنى الذي آتيتكموه لتؤمنن به. انتهى، وقرأ حمزة: {لما آتيتكم} بكسر اللام {وما} بمعنى الذي، وهي متعلقة بأخذ. وقرأ أهل المدينة: {آتيناكم} على التعظيم. وقرأ الباقون: {آتيتكم} على التوحيد، وقيل: إن {ما} في قراءة من قرأ بكسر اللام مصدرية. ومعناه: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب، والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم، واللام لام التعليل، أي: لأجل ذلك أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتؤمنن به.
قوله: {أَقْرَرْتُمْ} هو من الإقرار. والإصر في اللغة: الثقل، سمي العهد إصراً لما فيه من التشديد. والمعنى: وأخذتم على ذلك عهدي. قوله: {قَالُواْ أَقْرَرْنَا} جملة استئنافية، كأنه قيل: ماذا قالوا عند ذلك؟ فقيل قالوا أقررنا، وإنما لم يذكر أحدهم الإصر اكتفاء بذلك.
قوله: {قَالَ فاشهدوا} أي: قال الله سبحانه فاشهدوا، أي: ليشهد بعضهم على بعض: {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين} أي: وأنا على إقراركم، وشهادة بعضكم على بعض من الشاهدين. قوله: {فَمَنْ تولى} أي: أعرض عما ذكر بعد ذلك الميثاق {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} أي: الخارجون عن الطاعة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرأون: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ} ونحن نقرأ: {ميثاق النبيين} فقال ابن عباس: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن طاوس في الآية، قال: {أَخَذَ الله ميثاق النبيين} أن يصدق بعضهم بعضاً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} قال: هي خطأ من الكتاب، وهي في قراءة ابن مسعود: {ميثاق الذين أوتوا الكتاب} وأخرج ابن جرير، عن عليّ قال: لم يبعث الله نبياً آدم، فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث، وهو حيّ ليؤمنن به، ولينصرنه، ويأمره، فيأخذ العهد على قومه، ثم تلا: {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في الآية نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس نحوه.
وأخرج ابن جرير، من طريق العوفي عنه في قوله: {إِصْرِى} قال: عهدي.
وأخرج ابن جرير، عن عليّ في قوله: {قَالَ فاشهدوا} يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين} عليكم وعليهم {فَمَنْ تولى} عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} هم العاصون في الكفر.

.تفسير الآيات (83- 85):

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}
قوله: {أَفَغَيْرَ} عطف على مقدّر، أي: أتتولون، فتبغون غير دين الله، وتقديم المفعول؛ لأنه المقصود بالإنكار. وقرأ أبو عمرو وحده {يبغون} بالتحتية، و{ترجعون} بالفوقية، قال: لأن الأوّل خاص، والثاني عام، ففرّق بينهما لافتراقهما في المعنى. وقرأ حفص بالتحتية في الموضعين. وقرأ الباقون بالفوقية فيهما، وانتصب {طوعاً وكرهاً} على الحال، أي: طائعين ومكرهين. والطوع: الانقياد، والاتباع بسهولة، والكره: ما فيه مشقة، وهو من أسلم مخافة القتل، وإسلامه استسلام منه.
قوله: {آمنا} إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وعن أمته {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} كما فرّقت اليهود، والنصارى، فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
وقد تقدّم تفسير هذه الآية {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: منقادون مخلصون. قوله: {دِينًا} مفعول للفعل، أي: يبتغ ديناً حال كونه غير الإسلام، ويجوز أن ينتصب غير الإسلام على أنه مفعول الفعل، وديناً إما تمييز، أو حال إذا أوّل بالمشتق، أو بدل من غير. قوله: {وَهُوَ في الأخرة مِنَ الخاسرين} إما في محل نصب على الحال، أو جملة مستأنفة، أي: من الواقعين في الخسران يوم القيامة.
وقد أخرج الطبراني بسند ضعيف، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن في السموات والأرض} قال: «أما من في السموات فالملائكة، وأما من في الأرض، فمن ولد على الإسلام، وأما كرها، فمن أتى به من سبايا الأمم في السلاسل، والأغلال يقادون إلى الجنة، وهم كارهون».
وأخرج الديلمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية: «الملائكة أطاعوه في السماء، والأنصار، وعبد القيس أطاعوه في الأرض».
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال في الآية: {أَسْلَمَ مَن في السموات والأرض} حين أخذ عليهم الميثاق.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه في قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ} قال: المعرفة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال: أما المؤمن، فأسلم طائعاً، فنفعه ذلك، وقبل منه، وأما الكافر، فأسلم حين رأى بأس الله، فلم ينفعه ذلك، ولم يقبل منه {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85].
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ساء خلقه من الرقيق، والدوابّ، والصبيان، فاقرءوا في أذنه {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يبغون}».
وأخرج ابن السني في عمل اليوم، والليلة، عن يونس بن عبيد قال: ليس رجل يكون على دابة صعبة، فيقرأ في أذنها {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يبغون} الآية إلا ذلت بإذن الله عزّ وجلّ.
وأخرج أحمد، والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجيء الأعمال يوم القيامة، فتجيء الصلاة، فتقول: يا ربّ أنا الصلاة، فيقول: إنك على خير، وتجيء الصدقة فتقول: يا ربّ أنا الصدقة، فيقول إنك على خير، ويجيء الصيام، فيقول: أنا الصيام، فيقول إنك على خير، ثم تجيء الأعمال كل ذلك يقول الله: إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول: يا ربّ أنت السلام، وأنا الإسلام، فيقول: إنك على خير بك اليوم آخذ، وبك أعطي، قال الله تعالى في كتابه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الأخرة مِنَ الخاسرين}».

.تفسير الآيات (86- 91):

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}
قوله: {كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا} هذا الاستفهام معناه الجحد، أي: لا يهدي الله، ونظيره قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله} [التوبة: 7] أي: لا عهد لهم، ومثله قول الشاعر:
كَيْفَ نَومْي عَلى الفِراش ولما ** تَشْمل الشَامَ غَارة شَعْواءُ

أي: لا نوم لي. ومعنى الآية: لا يهدي الله قوماً إلى الحق كفروا بعد إيمانهم، وبعدما شهدوا أن الرسول حق، وبعد ما جاءتهم البينات من كتاب الله سبحانه، ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} جملة حالية، أي: كيف يهدي المرتدّين، والحال أنه لا يهدي من حصل منهم مجرد الظلم؛ لأنفسهم، ومنهم الباقون على الكفر، ولا ريب أن ذنب المرتدّ أشدّ من ذنب من هو باق على الكفر؛ لأن المرتدّ قد عرف الحق، ثم أعرض عناداً، وتمرّداً.
قوله: {أولئك} إشارة إلى القوم المتصفين بتلك الصفات السابقة، وهو: مبتدأ خبره الجملة التي بعده.
وقد تقدّم تفسير اللعن. وقوله: {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} معناه: يؤخرون ويمهلون. ثم استثنى التائبين: فقال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك}: أي: من بعد الارتداد {وَأَصْلَحُواْ} بالإسلام ما كان قد أفسدوه من دينهم بالردّة. وفيه دليل على قبول توبة المرتد إذا رجع إلى الإسلام مخلصاً، ولا خلاف في ذلك فيما أحفظ.
قوله: {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً}. قال قتادة، وعطاء الخراساني، والحسن: نزلت في اليهود، والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بنعته، وصفته: {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} بإقامتهم على كفرهم، وقيل: ازدادوا كفراً بالذنوب التي اكتسبوها، ورجحه ابن جرير الطبري، وجعلها في اليهود خاصة.
وقد استشكل جماعة من المفسرين قوله تعالى: {لن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} مع كون التوبة مقبولة، كما في الآية الأولى، وكما في قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] وغير ذلك، فقيل: المعنى: لن تقبل توبتهم بعد الموت. قال النحاس: وهذا قول حسن، كما قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الآن} [النساء: 18] وبه قال الحسن، وقتادة، وعطاء، ومنه الحديث: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»؛ وقيل: المعنى: لمن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا؛ لأن الكفر أحبطها، وقيل: لمن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر، والأولى أن يحمل عدم قبولهم التوبة في هذه الآية على من مات كافراً غير تائب، فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة، وتكون الآية المذكورة بعد هذه الآية، وهي قوله: {إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} في حكم البيان لها.
قوله: {مّلْء الأرض ذَهَبًا} الملء بالكسر مقداراً ما يملأ الشيء، والملء بالفتح: مصدر ملأت الشيء، و{ذهبا} تمييز، قاله الفراء وغيره.
وقال الكسائي: نصب على إضمار من ذهب. كقوله: {أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} [المائدة: 95] أي: من صيام. وقرأ الأعمش: {ذهب} بالرفع على أنه بدل من ملء، والواو في قوله: {وَلَوِ افتدى بِهِ} قيل: هي مقحمة زائدة، والمعنى: لو افتدى به. وقيل: فيه حمل على الغنى كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. وقيل: هو عطف على مقدر، أي: لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تصدق به في الدنيا، ولو افتدى به من العذاب أي: بمثله.
وقد أخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم، ثم ارتد، ولحق بالمشركين، ثم ندم، فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لي من توبة؟ فنزلت: {كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم} إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فأرسل إليه قومه، فأسلم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد نحوه، وقال: هو الحارث بن سويد.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن السدي نحوه، وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، عن ابن عباس، نحوه أيضاً.
وقد روى عن جماعة نحوه أيضاً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم}. قال: هم أهل الكتاب من اليهود عرفوا محمداً، ثم كفروا به.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن الحسن قال: هم أهل الكتاب من اليهود، والنصارى، وذكر نحو ما تقدّم عنه.
وأخرج البزار، عن ابن عباس: أن قوماً أسلموا، ثم ارتدوا، ثم أسلموا، ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا} قال السيوطي: هذا خطأ من البزار.
وأخرج ابن جرير، عن الحسن في الآية قال: اليهود، والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في الآية قال: هم اليهود كفروا بالإنجيل، وعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم، والقرآن.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في الآية قال: إنما نزلت في اليهود، والنصارى كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفراً بذنوب أذنبوها، ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم، ولو كانوا على الهدى قبلت توبتهم، ولكنهم على الضلالة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} قال: نموا على كفرهم.
وأخرج ابن جرير، عن السدي في قوله: {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} قال: ماتوا وهم كفار: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} قال: إذا تاب عند موته لم تقبل توبته.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} قال: تابوا من الذنوب، ولم يتوبوا من الأصل.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: {وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} قال: هو كل كافر.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بالكافر يوم القيامة، فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به، فيقول نعم، فيقال له لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك، فذلك قوله تعالى: {إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ}» الآية.